وبلاگ سپهران | مجلة العدد 27 | احتفالات الخريف والشتاء؛ تراث من قلب التاريخ
الاحتفالات، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، كانت دائمًا تجلب لحظات مفعمة بالحيوية للإنسان؛ لحظات تتيح الفرصة لتقارب القلوب وتجعل للحياة نكهة جديدة. من أعماق الثقافات القديمة إلى مظاهرها الحديثة، كل احتفال يعرض جمالياته الفريدة ويمنح تجارب جديدة. الاحتفالات الوطنية، والدينية، والثقافية، كل منها بطقوسها الخاصة، تصنع لحظات خالدة تبقى في الذاكرة. كل احتفال، بما يحمله من قصة، لا ينعش الروح فحسب، بل يذكرنا أن الفرح جزء لا يتجزأ من وجود الإنسان. الاحتفالات هي إرث أجدادنا؛ ميراث وصل إلينا من آبائنا وأمهاتنا، وسينتقل منا إلى الأجيال القادمة. مع حلول الخريف والشتاء، وحينما يستريح الناس من عناء النصف الأول من العام، تكون الفرصة مواتية ليجتمعوا ويستحضروا الطقوس القديمة من خزانة التاريخ المدفونة في أعمق طبقات الزمن، ولينفضوا عنها الغبار تحت ذريعة الاجتماع، وليحيوا ما نسميه “التراث اللامادي”؛ تراث كان بالنسبة لأسلافنا ليس فقط سببًا للفرح، بل قصة تحمل معنى أعمق. في مدونة سبهران، سنعرفكم على أهم احتفالات الخريف والشتاء.
الهالوين هو احتفال يمتد لآلاف السنين ويعود أصله إلى الطقوس القديمة لشعوب السلت. عاش السلتيون في أراضٍ تشمل اليوم إيرلندا واسكتلندا، وكانوا يحتفلون بأول يوم من نوفمبر كبداية لعام جديد. كان هذا اليوم يشير إلى نهاية الصيف الدافئ وبداية الشتاء البارد؛ وقت يتوقف فيه كل شيء، وتدخل الطبيعة في سبات. ووفق معتقدات السلتيين، كانت ليلة 31 أكتوبر ليلة ينكسر فيها الحاجز بين عالم الأحياء وعالم الأرواح، فتعود الأرواح إلى الأرض، ولهذا كانوا يقيمون طقوسًا خاصة في تلك الليلة.
أما في عالمنا اليوم، فقد تحول الهالوين من تقليد يحيي ذكرى عالم الأرواح إلى احتفال عصري مليء بالإثارة. ففي العديد من دول العالم، يرتدي الناس في ليلة الهالوين أزياء ذات طابع مخيف أو خيالي، ويوزعون الحلويات والشوكولاتة، ويحتفلون بهذه الليلة التي تجمع بين الرعب والإثارة والتسلية.
وأهم رمز للهالوين هو “فانوس جاك”، وهو عبارة عن قرع مجوف يُنحت بداخله ويوضع فيه شمعة مضيئة. تعود قصة هذا الفانوس إلى أسطورة عن رجل يُدعى جاك أبرم صفقة مع الشيطان، ونتيجة لذلك لم يجد مكانًا في الجنة ولا في الجحيم. فاضطر أن يهيم في الظلام حاملاً قرعًا مضيئًا ليهتدي به. وفي ليلة الهالوين، ينحت الناس القرع ويضيئونه تكريمًا لجاك وفانوسه، وتُزين به المنازل بأشكال جذابة.
في التقاليد الإيرانية القديمة، تُعرف أطول ليلة في السنة بأنها لحظة ولادة جديدة للشمس. فوفق هذه المعتقدات، يخرج الإله مهر في نهاية آخر ليلة من الخريف من كهف في جبال البرز، ليعيد بظهوره النور إلى العالم. بذلك، تمثل ليلة يلدا رمزًا للضوء والأمل بعد فترة من الظلام، وهي ليلة ترتبط ببداية النور وفصل جديد.
تجتمع العائلات الإيرانية في هذه الليلة لتحتفل بأطول ليلة في السنة في جو من المحبة والألفة، وتنسى برد الشتاء في أجواء دافئة. وتُزين مائدة يلدا بالرمان ذي اللون الياقوتي، والبطيخ الأحمر الحلو، والمكسرات الملونة. يروي الكبار الأساطير القديمة وقصص الشاهنامة الملحمية. ومن التقاليد المميزة لليلة يلدا فتح الفال من ديوان حافظ، ليحظى صاحب الفأل بجرعة من الأمل والتفاؤل.
في العصور القديمة، كان ملوك إيران يخلعون تيجانهم مع بداية شهر دي، الذي يلي أطول ليلة في السنة، ويرتدون ثيابًا بيضاء ويجلسون على بساط أبيض في السهول. في هذا اليوم، كان الحراس والخدم أحرارًا، وكانوا يعيشون حياة طبيعية. الإيرانيون حول العالم ما زالوا يحتفلون بليلة يلدا بحماس، ويكرمونها كرمز للتحول والنور.
يُعدّ الاحتفال برأس السنة الميلادية من أقدم الاحتفالات حول العالم، ويُقام في بلدان عديدة بطقوس وعادات متنوعة. في ليلة 31 ديسمبر، يكون الوداع للسنة الحالية ويبدأ اليوم الأول من يناير إيذانًا بعام جديد. تدخل السنة الجديدة في كثير من الدول عبر العد التنازلي للثواني الأخيرة، ويعمّ الحماس الأجواء بفضل عروض الألعاب النارية التي تضيء السماء.
تتجلى عادات استقبال السنة الجديدة بأساليب متباينة في بلدان متعددة، تأثرت بثقافات محلية تعود لأصول شعوب كل منطقة. في إسبانيا، يأكل الناس 12 حبة عنب عند حلول العام الجديد، كرمز للحظ الجيد في الأشهر الاثني عشر القادمة. وفي اليابان، تُقرع أجراس المعابد 108 مرات للتخلص من الأفكار السلبية، فيبدأ الناس العام الجديد بذهن صافٍ. بينما يرتدي الإيطاليون ملابس حمراء كرمز للسعادة، ويختار البرازيليون الأبيض رمزًا للسلام والصفاء. ويحتفل اليونانيون وشعوب البلقان بتقطيع كعكة تسمى “فاسيليوبتا” تحتوي على قطعة نقدية مخبأة؛ يُعتقد أن من يجدها سينعم بالحظ في العام الجديد.
وتعكس طقوس السنة الجديدة التنوع الثقافي لشعوب العالم في استقبال العام المقبل. فإلى جانب الاحتفالات والتجمعات والرحلات، يعتبر هذا الوقت فرصة ممتازة لمراجعة العام الماضي ووضع أهداف جديدة للعام المقبل.
يُعدّ الاحتفال برأس السنة الصينية إرثًا قديمًا لمجتمع الصين، ويقام بشغف كبير في مختلف أنحاء البلاد، وأينما وُجدت الجاليات الصينية حول العالم. يُعرف هذا الاحتفال باسم “عيد الربيع”. ويعتمد توقيت رأس السنة الصينية على التقويم القمري، لذا يختلف تاريخه سنويًا ويقع عادةً بين أواخر يناير ومنتصف فبراير. وتستمر احتفالات هذا العيد، التي تصادف بداية القمر الجديد، لمدة 15 يومًا وتتضمن طقوسًا تقليدية مميزة.
أحد الطقوس المهمة في رأس السنة الصينية هو تنظيف المنازل، وكأن الناس يطردون ليس فقط الغبار، بل أيضًا كل ما تراكم من متاعب ومشاكل السنة الماضية. تُزيَّن الشوارع والمنازل باللون الأحمر، الذي يمثل الفرح والنجاح، وتعلق اللافتات برسائل تبعث الأمل على الأبواب والجدران.
ومن أبرز فعاليات هذا العيد هي رقصات التنين والأسد، حيث يُعتبر التنين والأسد رمزين للحظ السعيد وإبعاد الأرواح الشريرة، وتُقام هذه الرقصات على إيقاعات الطبول وتحت أنوار الألعاب النارية. ورغم أجواء الإثارة التي تصاحب هذا العرض، إلا أنه يحمل جانبًا روحانيًا يرمز إلى طرد الشر واستقبال الخير. إلى جانب هذه الاحتفالات، تتجمع العائلات، ويقوم الكبار بتقديم “الأظرف الحمراء” التي تحتوي على المال للصغار، وهي هدايا رمزية تعبّر عن تمني الثراء والسعادة للأجيال الشابة.
في حضارة إيران القديمة، خُصص اليوم الخامس من شهر إسفند للاحتفاء بـ “سبندارمذ” إلهة الأرض وحارسة النساء. كان هذا اليوم رمزًا للحب والاحترام تجاه النساء والأرض؛ فقد اعتبر الإيرانيون القدماء الأرض رمزًا للخصوبة والمحبة، وآمنوا بأنها بمثل تواضعها وقدسيتها، ترعى البشر كالأم التي تحتضن أولادها.
وفي هذا اليوم المعروف بـ “سبندارمزغان”، كان الرجال يقدمون الهدايا للنساء تعبيرًا عن التقدير لعطفهنّ. هذا الاحتفال يُظهر احترامًا للأرض بوصفها رمزًا للخصوبة، ويعكس دور النساء الحيوي في الأسرة والمجتمع. وقد أشار أبو الريحان البيروني، العالِم الإيراني الكبير، بوضوح في كتابه “الآثار الباقية” إلى أهمية هذا اليوم، ووصفه بأنه “يوم المرأة والأرض”، معتبرًا إياه من الأعياد المهمة لدى الإيرانيين.
في اعتقاد الإيرانيين القدماء، يعيش الرجال بحكمتهم والنساء بعطفهن جنبًا إلى جنب، من أجل تحقيق النمو والسعادة. يُعدّ هذا العيد رمزًا للترابط العميق بينهما، وتذكيرًا بقيمة الحب والاحترام والتلاحم الأسري.
يتشابه “سبندارمزغان” من حيث المعنى مع عيد الحب، إلا أنه يركز أكثر على أهمية الحب والإخلاص تجاه النساء وحماية الأرض والطبيعة. رغم أن هذا العيد كان في طي النسيان لفترة من الزمن، إلا أنه شهد تجددًا في السنوات الأخيرة وأصبح حاضرًا في قلوب وعقول الإيرانيين، فرصة لتقدير النساء وتعزيز الروابط العائلية.
في ثقافة الشعوب الناطقة بالفارسية، لا يوجد ما هو أجمل من الاحتفال بانتهاء الشتاء ومرحباً بقدوم الربيع. وُلد هذا العيد التاريخي “النوروز” مع نهاية الشتاء البارد وفي حضن الربيع المزدهر. ويعد النوروز بداية العام الجديد في التقويم الشمسي.
يُوافق النوروز الأول من فروردين، بداية الربيع، ويعد عيدًا دوليًا يحتفل به أكثر من 300 مليون شخص في مناطق البلقان، حوض البحر الأسود، القوقاز، آسيا الوسطى، الشرق الأوسط، وغيرها. منذ أكثر من 3000 عام، يحتفي الناس بهذا العيد الذي يحمل معاني التجدد والطبيعة. ومع اقتراب هذا العيد العريق، يقوم الناس بتنظيف منازلهم كتعبير عن إزالة الحزن والأسى. ثم ينتقلون لتزيين المنازل، وأي زينة أفضل من “سفره هفت سين” (سفره السبع سينات) التي تحمل كل قطعة منها رمزية خاصة؛ فـ”السبزه” ترمز للخصوبة، و”السنبل” يرمز للحب، و”السمنو” يمثل الوفرة، بينما “السيب” و”السرکه” و”السير” كلها ترسل رسائل الحياة والبهجة في كل منزل إيراني.
ويعد قدوم النوروز فرصة للتواصل العائلي، حيث يتبادل الناس الزيارات ويجددون العلاقات مع بعضهم البعض. يتلقى الأطفال عيدياتهم بحماس، ويتمنى الكبار لبعضهم الأفضل بقلوب صادقة. النوروز هو إرث ثقافي غير مادي، يحفظه الإيرانيون والعديد من الشعوب حول العالم كتقدير لعودة الربيع وحياة الطبيعة من جديد، ويعزز التضامن والتآخي بين الأقوام والأمم.
تحدثنا عن الاحتفالات الخريف والشتاء واستعرضنا الأحداث العالمية من بداية الخريف حتى نهاية الشتاء. تمثل كل من هذه الأعياد فرصة للحفاظ على الإرث الثقافي غير المادي الذي وصلنا من الماضي البعيد. إذا كنتم تخططون للسفر في الخريف أو لاستكشاف الشتاء، يمكنكم حجز التذاكر وخدمات الطيران الخاصة بكم هنا: flysepehran.com